الحكمة في ارض البرونز بقلم د.رحاب سليمان

موقع أيام نيوز

‫الطبيــب المعالــج عمــل عمليــة لجــدى لكبــر ســنه‪،‬ازداد حزنــى وخوفــى‬
‫عليــه‪،‬طلــب منــى جــدى متابعــة االعمــال بالشــركات وانــا فــى ســن الثامنــة‬
‫عشــر‪،‬وبالفعــل بــدأت عالــم االعمــال فــى ســن مبكــر كنــت أحــاول الجمــع‬
 ‫بيــن دراســتى ومتابعــة الشــركات‬

‫كنــت أتظاهــر بالقــوة‪،‬والأظهــر ضعفــى أمــام اآلخريــن‪،‬خاصــة فــى عالــم‬

‫رجــال االعمــال كان البــد مــن ذلــك‪،‬كــى ال يســتصغرون ســنى ووضعــى‪،‬‬
‫يصفنــى مــن حولــى بأننــى خالــى مــن المشــاعر وهــذا مــا اصبحــت عليــه بعــد‬
‫فقــدان والــدى ووالدتــى‪،‬كمــا اننــى ال أشــعر اطالق ـا ً بمشــاعر اآلخرين‪،‬بــل‬
‫وال أهتــم بهــا‪،‬االنســان الوحيــد الــذى كنــت أهتــم لمشــاعره هــو جــدى فقــط‪،‬‬
‫تعلمــت مــن جــدى قــوة الشــخصية وان تكــون كلماتــى أوامــر‪،‬كنــت أرى‬
‫اننــى دائم ـا ً علــى حــق‪،‬ال يســتطيع احــد مراجعتــى عــن قراراتــى والعــدول‬
‫عنهــا ســوى مــن جــدى‪،‬امــا البقيــة كنــت اعاملهــم بنفــس طريقــة جــدى‬
                ‫معهــم‪،‬كان يســعد جــدى حيــن يرانــى صــورة مصغــرة منــه‪.‬‬
‫ذات يــوم اتصلــت بــى فاتــن مديــرة المنــزل لتخبرنــى ان جــدى مريــض ويريد‬
‫أن يرانــى‪،‬فهرولــت مــن مكانــى وذهبــت الــى جــدى‪،‬كانــت الدمــوع تمــأ‬
‫عينيــه وهــو يمســك بيــده صــورة عائليــة لــه ولجدتــى والبــى وأمــى وانــا‬
‫كنــت حينهــا ســت ســنوات‪،‬بكيــت أنــا أيض ـا ً حيــن رأيتــه‪،‬وذكرتــه بقــول‬
‫الطبيــب (ان معاناتــك مــن الحــزن كانــت الســبب فــى ضعــف عضلــة القلــب) ‪.‬‬
‫وقلــت لجــدى‪:‬انــت كل مــا لــى فــى هــذه الدنيــا‪،‬اننــى بحاجــة اليــك يــا جــدى‬
 ‫الحبيــب ‪.‬‬
‫فقــال لــى جــدى‪:‬نــادر اننــى ارســلت فــى طلبــك لكــى أخبــرك اننــى اريــدك‬
‫كالغصــن القــوى الــذى ال تهــزه الريــح‪،‬اعلــم جيــدا ً ان مصابنــا كبيــر ولكــن‬
‫يجــب عليــك ان تكــون قــوى جــدا‪،‬فأنــت اآلن وريــث كل هــذه االمبراطوريــة‬
‫الهائلــة‪،‬ويقــع علــى عاتقــك وحمايتهــا‪،‬وايضـا ً أتمنــى أن تتــزوج فــى ســن‬
‫مبكــر وتــرزق بالكثيــر مــن االبنــاء‪،‬واريــد أن اخبــرك بشــىء هــام‪،‬كل مــن‬
‫حولــك طامعيــن فــى ارثــك الضخــم‪،‬لــذا ال تثــق فــى أحــد‪،‬وفجــأة رأيــت‬
‫جــدى يتعثــر فــى الحديــث‪،‬ثــم فــارق الحيــاة‪،‬لــم أصــدق نفســى‪،‬كان جــدى‬
‫يتحــدث معــى اآلن وفجــأة هــو اآلخــر فارقنــى‪،‬هــل يفارقنــى كل انســان أحبــه‬
‫فــى هــذه الدنيــا؟ ظــل هــذا التســاؤل بذهنــى‪،‬مــدة طويلــة مــن الزمــن‪،‬كنــت‬
‫فــى العشــرين مــن عمــرى حيــن توفــى جــدى اصبحــت انســان وحيــد بمعنــى‬
 ‫الكلمــة ليــس لــى أحــد فــى هــذه الدنيــا‬


‫مــرت االيــام والســنون بنفــس النمــط ونفــس الوتيــرة‪،‬حتــى اصبحــت علــى‬
‫مشــارف الثالثيــن مــن عمــرى‪،‬لــم أتــزوج‪،‬ولــم أكــن أنــوى الــزواج فــى هــذا‬
‫الوقــت‪،‬اننــى أعيــش بمفــردى فــى هــذا القصــر الــذى كنــت أعشــقة حينمــا‬
‫كنــت صغيــر‪،‬اتذكــر امــى جيــدا ً حيــن كانــت تهتــم بشــراء الثرايــا والتحــف‬
‫القيمــة‪،‬يحمــل كل ركــن مــن أركان هــذا القصــر ذكــرى جميلــة مــن ذكريــات‬
‫أمــى‪،‬حيــن ادخــل مــن بــاب الحديقــة اتذكرأبــى حيــن يقلــم األشــجار ويــزرع‬
‫الــورود النــادرة بيــده‪،‬كــم افتقــد ضحــكات أمــى وأبــى التــى كانــت تمــأ‬
‫القصــر وتغمــره بالســعادة‪،‬كــم اشــتقت لروائــح الفطــور اللذيــذ الــذى كانــت‬
‫تعــده أمــى‪،‬كــم كانــت أمــى رائعــة‪،‬كنــت أحيــا حيــاة جميلــة أفتقدهــا كثيــرًا‪،‬‬
‫لقــد تحــول القصــر الــذى كانــت تملــؤه الســعادة‪،‬الــى قصــر كئيــب يســوده‬
‫الحــزن‪،‬جدرانــه أصبحــت كجــدران الســجن بالنســبة لــى‪،‬لــم أشعربالســعادة‬
‫الحقيقــة ســوى فــى طفولتــى‪،‬كان هــذا القصــر ملــىء بالبهجــة والســعادة‪،‬‬
‫ـدى‪،‬كــم افتقــدت ايض ـا ً جــدى الــذى قــام‬
  ‫تغيــر الحــال كثيــرا بعــد وفــاة والـ ّ‬
‫بتولــى رعايتى‪،‬وحــرص علــى تنشــئتى بحــزم‪،‬وكان دائم ـا ً يذكرنــى جــدى‬
 ‫بأننــى وريــث امبراطوريــة كبيــرة‪،‬ويجــب أن أحافــظ عليهــا‪.‬‬
‫اعتــدت العيــش بمفــردى فــى القصــر‪،‬اعتــدت الوحــدة وال احــب االختــاط‬
‫باآلخريــن‪،‬ولذلــك يصفنــى البعــض بالتعجــرف‪،‬كنــت أشــعر اننــى مختلــف‬
‫كثيــرا ً عــن أقرانــى وكل مــن حولــى‪،‬وذلــك لشــعورى الدائــم باإلختــاف‬
‫عنهــم‪،‬الحــزن انتابنــى االكتئــاب طوي ـاَ‪،‬بســبب مشــاعر الوحــدة القاتلــة‬
‫ـدى‪،‬وجدتــى‪،‬ويليهــم وفــاة جــدى‪،‬كان لجــدى‬   ‫التــى أصابتنــى بعــد وفــاة والـ ّ‬
‫بالفعــل دور كبيــر فــى تشــكيل أفــكارى ومعتقداتــى‪،‬ليــس لــى أصدقــاء‬
‫ســوى صديقــى حســين الــذى جمعتنــا الصداقــة منــذ الصغــر‪،‬وهــو الشــخص‬
‫الوحيــد الــذى اعتبرتــه أخــى فــى هــذه الدنيــا‪،‬هــو متــزوج اآلن ولديــه‬
‫طفلتيــن‪،‬و اشــعر باألرتيــاح فــى التعامــل معــه‪،‬النــه يقرأنــى جيــدا ً ويعلــم مــا‬
‫يــدور بخلــدى دون أن أتفــوه بكلمــة‪،‬ال أحــب الثرثــرة فــى الحديــث‪،‬اعشــق‬
‫الســيرعلى شــاطىء البحــر‪،‬أقــدر ســحر وجمــال الطبيعــة‪،‬عشــقت الزراعــة‬
‫بســبب حــب والــدى لهــا وحافظــت علــى الزهــور النــادرة التــى كان يهتــم بهــا‬
‫فرائحــة تلــك الزهــور كانــت تحمــل عبيــر الذكريــات الجميلــة‪،‬كنــت اتذكــر‬
‫ابــى حيــن كان يجمــع لنــا الزهــور كل صبــاح‪،‬بالرغــم مــن إنشــغاله الكبيــر‪،‬‬
‫كان لوالــدى شــركة هندســية‪،‬أنشــأها بمجهــوده الخــاص‪،‬وتعــب وســهر‬
‫عليهــا حتــى كبــرت هــذه الشــركة‪،‬وأصبحــت مــن الشــركات الرائــدة فــى‬
‫مجــال التصميــم الهندســى‪،‬والتــى تعتبــر مــن الشــركات المصنفــة عالمي ـًا‪،‬‬
‫وبالطبــع ورثــت هــذه الشــركة عنــه بجانــب الشــركات األخــرى‪،‬أكملــت‬
‫دراســتى فــى نفــس مجــال والــدى‪،‬درســت الهندســة المعماريــة‪،‬وكان ســر‬
‫شــغفى بهــذا المجــال هــو اننــى كنــت أرى والــدى وانــا طفــل صغيــر يصمــم‬
‫العديــد مــن التصميمــات‪،‬حتــى أنــه قــام بنفســه بالتصميــم المعمــارى لهــذا‬
‫القصــر الــذى أعيــش فيــه اآلن‪،‬اتذكــر جيــدا كيــف كان والــدى يهتــم بــأدق‬‬

تم نسخ الرابط